الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
وذكر النقاش والمهدوي أن الأصفر رجل من الحبشة وقع ببلاد الروم فتزوج وأنسل بنات لهن جمال وهذا ضعيف، وقوله: {ألا في الفتنة سقطوا} أي في الذي أظهروا الفرار منه بما تبين لك وللمؤمنين من نفاقهم وصح عندكم من كفرهم وفسد مما بينكم وبينهم، و{سقطوا} عبارة منبئة عن تمكن وقوعهم ومنه على الخبير سقطت، ثم قال: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}، وهذا توعد شديد لهم أي هي مآلهم ومصيرهم كيف ما تقلبوا في الدنيا فإليها يرجعون فهي محيطة بهذا الوجه، وقوله تعالى: {إن تصبك حسنة} الآية، أخبر تعالى عن معتقدهم وما هم عليه، والحسنة هنا بحسب الغزوة هي الغنيمة والظفر، والمصيبة الهزم والخيبة، واللفظ عام بعد ذلك في كل محبوب ومكروه، ومعنى قوله: {قد أخذنا أمرنا من قبل}، أي حزمنا نحن في تخلفنا ونظرنا لأنفسنا، وقوله تعالى {قل لن يصيبنا} الآية، أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يرد على المنافقين ويفسد عليهم فرحهم بأن يعلمهم أن الشيء الذي يعتقدونه مصيبة ليس كما اعتقدوه، بل الجميع مما قد كتبه الله عز وجل للمؤمنين، فإما أن يكون ظفراً وسروراً في الدنيا وإما أن يكون ذخراً للآخرة، وقرأ طلحة بن مصرف {قل هل يصيبنا}، ذكره أبو حاتم، وعند ابن جني وقرأ طلحة بن مصرف وأعين قاضي الري {قل لن يصيِّبنا} بشد الياء التي بعد الصاد وكسرها كذا ذكر أبو الفتح وشرح ذلك وهو وهم، والله أعلم.قال أبو حاتم: قال عمرو بن شفيق سمعت أعين قاضي الري يقرأ {قل لن يصيبنا} النون مشددة، قال أبو حاتم: ولا يجوز ذلك لأن النون لا تدخل مع لن، ولو كانت لطلحة بن مصرف لجازت لأنها مع هل، قال الله عز وجل {هل يذهبن كيده ما يغيظ} [الحج: 15] وقوله: {كتب الله} يحتمل أن يريد ما قضى وقدر.ويحتمل أن يريد ما كتب الله لنا في قرآننا علينا من أنّا إما أن نظفر بعدونا وإما أن نستشهد فندخل الجنة.قال القاضي أبو محمد: وهذا الاحتمال يرجع إلى الأول وقد ذكرهما الزجّاج، وقوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}، معناه مع سعيهم وجدهم إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا قول أكثر العلماء وهو الصحيح، والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، مدة عمره ومنه مظاهرته بين درعين، وتخبط الناس في معنى التوكل في الرزق فالأشهر والأصح أن الرجل الذي يمكنه التحرف الحلال المحض الذي لا تدخله كراهية ينبغي له أن يمتثل منه ما يصونه ويحمله كالاحتطاب ونحوه، وقد قرن الله تعالى الرزق بالتسبب، ومنه {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليكم رطباً جنياً} [مريم: 25] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الطير: «تغدو خماصاً» الحديث.ومنه قوله: «قيدها وتوكل» وذهب بعض الناس إلى أن الرجل القوي الجلد إذا بلغ من التوكل إلى أن يدخل غاراً أو بيتاً يجهل أمره فيه ويبقى في ذكر الله متوكلاً يقول إن كان بقي لي رزق فسيأتي الله به وإن كان رزقي قد تم مت إذ ذلك حسن بالغ عند قوم، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه كان في الحرم رجل ملازم، يخرج من جيبه المرة بعد المرة بطاقته ينظر فيها ثم يصرفها ويبقى على حاله حتى مات في ذلك الموضع، فقرأت البطاقة فإذا فيها مكتوب: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} [الطور: 48].قال القاضي أبو محمد: وهذه الطريقة لا يراها جل أهل العلم بل ينبغي أن يسعى الرجل لقدر القوت سعياً جميلاً لا يواقع فيه شبهة، فإن تعذر عليه جميع ذلك وخرج إلى حد الاضطرار فحيئذ إن تسامح في السؤال وأكل الميتة وما أمكنه من ذلك فهو له مباح، وإن صبر وتحتسب نفسه كان في أعلى رتبة عند قوم، ومن الناس من يرى أن فرضاً عليه إبقاء رمقه وأما من يختار الإلقاء باليد- والسعي ممكن- فما كان هذا قط من خلق الرسول ولا الصحابة ولا العلماء، والله سبحانه الموفق للصواب، ومن حجج من يقول بالتوكل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في قوله «يدخل الجنة سبعون ألفاً من أمتي بلا حساب وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطببون وعلى ربهم يتوكلون»، وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لعكاشة بن محصن أن يكون منهم، فقيل ذلك لأنه عرف منه أنه معد لذلك، وقال للآخر سبقك بها عكاشة ورُدّت الدعوة، فقيل: ذلك لأنه كان منافقاً، وقيل بل عرف منه أنه لا يصح لهذه الدرجة من التوكل.
وقول الآخر: [الكامل] وقوله: {بعذاب من عنده}، يريد الموت بأخذات الأسف، ويحتمل أن يكون توعداً بعذاب الآخرة، وقوله: {بأيدينا}، يريد القتل وقيل {بعذاب من عنده} يريد أنواع المصائب والقوارع وقوله: {فتربصوا إنَّا معكم متربصون} وعيد وتهديد، وقوله: {قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً} سببها: أن الجد بن قيس حين قال: {ائذن لي ولا تفتني} [التوبة: 49] قال إني أعينك بمال فنزلت هذه الآية فيه وهي عامة بعده، والطوع والكره يعمان كل إنفاق، وقرأ ابن وثاب والأعمش {وكُرها} بضم الكاف.قال القاضي أبو محمد: ويتصل هاهنا ذكر أفال الكافر إذا كانت براً كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة المظلوم هل ينتفع بها أم لا، فاختصار القول في ذلك أن في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها» ونحو ذلك، فهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر وأما ينتفع بها في الآخرة فلا، دليل ذلك أن عائشة أم المؤمنين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله: أرأيت عبد الله بن جدعان أينفعه ما كان يطعم ويصنع من خير فقال: «لا إنه لم يقل يوماً، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» ودليل آخر في قول عمر رضي الله عنه لابنه: ذاك العاصي بن وائل لا جزاه الله خيراً وكان هذا القول بعد موت العاصي، الحديث بطوله، ودليل ثالث في حديث حكيم بن حزام على أحد التأويلين: أعني في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أسلمت على ما سلف لك من خير»، ولا حجة في أمر أبي طالب كونه في ضحضاح من نار لأن ذلك إنما هو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وبأنه وجده في غمرة النار فأخرجه، ولو فرضنا أن ذلك بأعماله لم يحتج إلى شفاعة، وأما أفعال الكافر القبيحة فإنها تزيد في عذابه وبذلك هو تفاضلهم في عذاب جهنم، وقوله: {أنفقوا} أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جواب فالتقدير: إن لم تنفقوا لم يتقبل منكم، وأما إذا عري الأمر من جواب فليس يصحبه تضمن الشرط.
قال القاضي أبو محمد: وقال أبو حاتم: قراءة أبي بن كعب {متدخلاً} بتاء مفتوحة، وروي عن الأعمش وعيسى {مُدخلاً} بضم الميم فهو من أدخل، وقرأ الناس {لولوا} وقرأ جد أبي عبيدة بن قرمل {لوالوا} من الموالاة، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال: أظن لوالوا بمعنى للجؤوا، وقرأ جمهور الناس، {يجمحون} معناه يسرعون مصممين غير منثنين، ومنه قول مهلهل: [البسيط] وقرأ أنس بن مالك {يجمزون} ومعناه يهربون، ومنه قولهم في حديث الرجم: فلما إذ لقته الحجارة جمزة، وقوله تعالى: {ومنهم من يلمزك} الآية، الضمير في قوله: {ومنهم} عائد على المنافقين، وأسند الطبري إلى أبي سعيد الخدري أنه قال: جاء ابن ذي الخويصرة التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً فقال: اعدل يا محمد الحديث المشهور بطوله، وفيه قال أبو سعيد: فنزلت في ذلك {ومنهم من يلمزك في الصدقات}، وروى داود بن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصدقة فقسمها ووراءه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل فنزلت الآية.قال القاضي أبو محمد: وهذه نزعة منافق، وكذلك روي من غير ما طريق أن الآية نزلت بسبب كلام المنافقين إذ لم يعطوا بحسب شطط آمالهم، و{يلمزك} معناه يعيبك ويأخذ منك في الغيبة ومنه قول الشاعر: [البسيط] ومنه قول رؤبة: [الرجز] والهمز أيضاً في نحو ذلك ومنه قوله تعالى {ويل لكل همزة لمزة} [الهمزة: 1] وقيل لبعض العرب: أتهمز الفأرة فقال: إنها تهمزها الهرة قال أبو علي: فجعل الأكل همزاً، وهذه استعارة كما استعار حسان بن ثابت الغرث في قوله: [الطويل] قال القاضي أبو محمد: ولم يجعل الأعرابي الهمز الأكل، وإنما أراد ضربها إياها بالناب والظفر، وقرأ جمهور الناس {يلمِزك} بكسر الميم، وقرأ ابن كثير فيما روى عنه حماد بن سلمة {يلمُزك} بضم الميم، وهي قراءة أهل مكة وقراءة الحسن وأبي رجاء وغيرهم، وقرأ الأعمش {يُلمّزك}، وروى أيضاً حماد بن سلمة عن ابن كثير {يلامزك}، وهي مفاعلة من واحد لأنه فعل لم يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله} الآية، وصف للحال التي ينبغي أن يكون عليها المستقيمون، يقول تعالى: ولو أن هؤلاء المنافقين رضوا قسمة الله الرزق لهم وما أعطاهم على يدي رسوله ورجوا أنفسهم فضل الله ورسوله وأقروا بالرغبة إلى الله لكان خيراً لهم وأفضل مما هم فيه، وحذف الجواب من الآية لدلالة ظاهر الكلام عليه، وذلك من فصيح الكلام وإيجازه.
|